ترامب والنظام العالمي- عودة إلى زمن الغابة أم تفكيك للقانون الدولي؟

المؤلف: د. عمار علي حسن09.04.2025
ترامب والنظام العالمي- عودة إلى زمن الغابة أم تفكيك للقانون الدولي؟

إن إعلان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عن نيته السماح لسفن وأساطيل بلاده بالعبور الحر لقناتي السويس وبنما، دون التقيُّد بدفع الرسوم المقررة، لم يكن محض مفاجأة، بل انسجامًا مع نهجه المثير للجدل. هذا التصريح يثير تساؤلات جوهرية حول مدى احترام إدارته لمبادئ "سيادة الدول" و"القانون الدولي". كما يطرح علامات استفهام حول تعاطي واشنطن مع الهيئات والمؤسسات الدولية التي تأسست عقب الحرب العالمية الثانية، خاصة في ظل انخراطها العسكري والدبلوماسي في الصراع الدائر في قطاع غزة.

يسعى ترامب، على ما يبدو، إلى تقويض الجهود الإنسانية الهادفة لتعزيز "المصالح المشتركة" أو الإيمان بمفهوم "مستقبلنا المشترك" الذي تبنته الأمم المتحدة منذ عقود، أو حتى تجاهل الآليات الاقتصادية التي تفرض مبدأ "الميزة النسبية"، الذي يتيح للدول فرصًا متكافئة للمساهمة في الاقتصاد العالمي وتحقيق الازدهار لشعوبها.

هذا التوجه نحو إلغاء مكتسبات تاريخية جاءت بعد جهود مضنية، يبدو كأنه انقلاب على الحقبة التي كانت فيها الإمبراطوريات المتعطشة للتوسع والاستيلاء لا تلتزم بقوانين أو أعراف دولية، ولا تعترف بحقوق الدول والشعوب الأخرى، حيث كانت القوة الغاشمة هي الفيصل في العلاقات الدولية.

الوضع الراهن لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة تراكمات بدأت مع نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، وشملت تدخلات عسكرية أمريكية في مناطق مختلفة، بدءًا من قصف ليبيا عام 1986، مرورًا باحتلال العراق عام 2003 دون تفويض من مجلس الأمن، والتهديد باجتياح سوريا، وقبل ذلك، غزو أفغانستان عام 2001.

تفاقمت الأمور مع استمرار الدول الكبرى في شن حروب بالوكالة، وتأجيج الصراعات في مناطق عديدة بهدف دعم صناعة الأسلحة وتجارتها العالمية المربحة. كما تم ممارسة حصار اقتصادي قاسٍ على بعض الدول، واستغلال ملف حقوق الإنسان والمساعدات كوسيلة للضغط السياسي على الحكومات.

ومع ذلك، لم تخلُ هذه التحركات من محاولات للحفاظ على قدر من التوازن ضمن الإطار القانوني والسياسي العام. ففي الولايات المتحدة، كانت هناك أصوات تحذر من التهور والعنف المفرط الذي قد يقوض النظام الدولي، ويضر بمكانة واشنطن كزعيمة للعالم الحر وقدوة للديمقراطية والرأسمالية.

لكن هذه الأصوات لم تجد آذانًا صاغية في ظل صعود تيار "الترامبية"، الذي يقلل من شأن النخب السياسية والثقافية، ويعزز الشعبوية، ويغذي النزعات اليمينية المتطرفة. هذا التيار يصوّر للمواطن الأمريكي العادي أن مصالحه مرتبطة باستغلال موارد الدول الأخرى، ويرى أن الولايات المتحدة لم تستغل قوتها العسكرية والاقتصادية بالشكل الأمثل لفرض إرادتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

مع بزوغ نجم هذا التيار في مطلع الألفية الثالثة، تعالت أصوات تنادي بـ "حدود القوة"، مما ألهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة قدرًا من الحذر والعقلانية، ووقى العالم من الانزلاق إلى الفوضى التي سبقت ظهور الدولة القومية والتكتلات الاقتصادية والسياسية القائمة على المصالح المتبادلة وحماية الأمن القومي.

لكن اليوم، تتجاهل الإدارة الأمريكية هذه الأصوات وتسعى لإخمادها، كما يتضح في قمع الاحتجاجات المنددة بالإبادة الجماعية في غزة، والتغاضي عن القانون والأعراف الاجتماعية، وتجاهل صورة أمريكا في العالم. هذا التوجه يواجه بقوة اجتماعية مضادة، خلقها ترامب في المجتمع الأمريكي على مدى السنوات الماضية.

وبما أن الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى في النظام الدولي، فإن هذا الانفلات سيترتب عليه آثار سلبية وخيمة على مستوى العالم، مما سيؤدي إلى إعادة النظر في التسويات التي تم التوصل إليها وفقًا لمنطق القوة، بدلًا من مبادئ الحق والواجب.

هناك العديد من بؤر الصراع الكامنة التي قد تنفجر في أي لحظة، ولن يكون للقانون الدولي أو المؤسسات الدولية دور يُذكر في حلها.

مشاكل الحدود التي خلّفها الاستعمار في أفريقيا، والتي حاولت منظمة الوحدة الأفريقية حلها من خلال مبدأ "قدسية الحدود"، قد تعود إلى الواجهة. وقد تنهار الاتفاقيات المتعلقة بتقاسم مياه الأنهار، وقد تسعى دول لإعادة إحياء أطماعها في مناطق متنازع عليها، مثل كشمير بين الهند وباكستان، وناغورني قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا، وقد تجد الصين الفرصة سانحة لضم تايوان.

قد تطل برأسها من جديد النزاعات العرقية والدينية والمذهبية داخل الدول، وقد تتجدد الحرب الكورية، وتنفجر الصراعات في البلقان، ويزداد الضغط على دول أمريكا اللاتينية التي تعتبرها الولايات المتحدة فناء خلفيًا لها.

قد تعود "نظرية المجال الحيوي" إلى الظهور، حيث تطمع الدول القوية في الدول المجاورة الأضعف منها. وفي خضم هذه الفوضى، قد تفكر تل أبيب في تنفيذ مخططها القديم الجديد لـ "إسرائيل الكبرى".

باختصار، فإن خطاب ترامب وتوجهاته وسياساته تدفع العالم نحو حقبة من الصراع المفتوح، في ظل قناعة متزايدة بأن القانون الدولي لم يعد له قيمة، وأن المؤسسات الدولية أصبحت مجرد هياكل فارغة، وأن سيادة الدول لا تحميها القوانين أو الأعراف الدولية، بل القوة وحدها، مما يعني اتجاه العالم نحو مزيد من التسلح.

ومما يزيد الطين بلة، هو احتمال لجوء الدول الكبرى إلى اقتسام العالم كمغانم، كما حدث بعد الحروب الكبرى. وما يُطرح حاليًا بين واشنطن وموسكو بشأن أوكرانيا، بتقاسم الأرض للروس والمعادن للأمريكيين، قد يكون الخطوة الأولى على طريق الفوضى.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة